"مصالح الأبدان والأنفس"
من تأليف أبي زيد احمد بن سهل البلخي
322 ه / 935 م
دراسة مقالة مصالح الأبدان ( منقول من المكتبة الشاملة )
القولُ في تدبيرِ إخراجِ الدم:
إخراجُ الدمِ في وقتِ الحاجةِ إليه هو أشرفُ علاجٍ مِنْ علاجات الاستفراغ، وأظهرُها نفعًا، وأعونُها على تعجيل البرء والصحة منَ الأمراضِ الصعبة. وذلك إذا اجتمعت في العروقِ فضولُهُ وسخنت وعفنت ولَّدَتْ أدواءً خبيثةً، فإذا أُخرجَتْ تلك الفضولُ ونقِّيَ البدنُ منها عاد إلى تمامِ الصحَّةِ، وكمالِ القوَّةِ، وصفاءِ اللونِ، وإشراقِ الوجهِ، ونقاءِ البَشَرَةِ، وقويَت الشهوات، ورجع كلٌّ مِنْ أعضاء البدن إلى أفضلِ مزاجِهِ، وأشرفِ هيئته، ووُجِدَتْ منه المنفعةُ التي خُلِق مِنْ أجلِها بتمامها.
وإذا تَبَيَّغَ بالإنسانِ الدَّمُ يحتملُ منَ المدافعة بإخراجِهِ ما لا يحتملُه سواهُ منَ الأخلاطِ الأخرِ، وذلك أنَّه إنَّما يعفنُ في أجوافِ العروقِ، وليست الأخلاطُ الأخرُ كذلك.
وبحسب ما يوجدُ منَ المنافعِ الكثيرةِ في إخراجِه إذا احتيجَ إلى ذلك كذلك
يولِّدُ المضارَّ الكثيرةَ على البدَنِ إذا أُخرجَ منه النقيُّ الصحيحُ الجوهرِ
الذي تلزم الحاجةُ إليه في غذاءِ البدنِ، وذلك أنَّ الحرارةَ الغريزيَّةَ التي بها
قِوامُ البدن متعلِّقةٌ به، وكلُّ ما سواه منَ الأخلاطِ فهو مغمورٌ به، وكامنٌّ
فيه؛ لأنَّه مبثوثٌ في كلِّ أجزاءِ البدنِ، فهو يغذوها كلَّها، ولكلٍّ منها حظٌّ
ونصيبٌ منه، فإذا كان صحيحَ الجوهر جيِّدَ المزاجِ صحَّ اغتذاءُ الجسمِ بما يأخذُ
منه، وزالَتْ عنه عوارضُ الأسقامِ، وحوادثُ الآلامِ. فإذا زادَ على القَدْرِ الذي
تلزمُ الحاجةُ إليه في تغذيةِ البدنِ منه أحدَثَ ما ذكرناهُ منَ الأدواءِ الخبيثةِ،
وإذا نقصَ بإخراجِهِ ما يحتاجُ إليه أضعفَ البدنَ ونهكَهُ، وربَّما أدَّى إلى
انحلالِ القوَّةِ الغريزيَّةِ.
ولذلك ذهبَ قومٌ مِنْ أصحابِ الطبائعِ والأطباءِ إلى النهيِ عن إخراجِهِ أصلا،
وقالوا: إنَّه جوهرُ الروحِ، وهي متعلِّقةٌ به، ولا يجوزُ المخاطرةُ بالنفسِ في
إخراجِهِ. والذي ذهبوا إليه مِنْ ذلك رأيٌ غيرُ مقبولٍ ولا معمولٌ به منَ الأكثرين
مِنْ أهلِ صناعةِ الطبِّ وعلمائهم، إلا أنَّه يجبُ مع ذلك أنْ يَتوقَّى إخراجَ شيءٍ
منه في غيرِ وقتِ الحاجةِ إليه. فأمَّا عند تَبَيُّغِهِ وحركتِه فالواجبُ أنْ
يبادَرَ بإخراجِهِ؛ لأنَّ التقصيرَ في ذلك يؤدِّي منَ الأمراضِ الصعبةِ إلى ما
ذكرناه.
وهو يخرجُ منَ البدنِ بوجوهٍ منَ الفصدِ والحجامةِ وإرسالِ العلَقِ.
ولكلٍ مِنْ هذه الوجوهِ وقتٌ هو فيها أصلحُ وأنفعُ، وذلك أنَّ الدمَ إذا تبيَّغَ وتحرَّكَ في جوف العروقِ لم يشْفِ منه إلا إخراجُهُ بالفَصدِ، ليخرجَهُ مِنْ مكمنِهِ. فأمَّا إذا كان فيما يخرجُ عن العروقِ فقد ينفعُ إخراجُهُ بالحجامةِ، وأمَّا إذا كان فيما يقرُبُ ? منَ البشَرَةِ وبحيث تتولَّد البثور التي تظهر عليها نَفَعَ إخراجُهُ بإرسالِ العلَقِ.
والصبيُّ الذي لم تستحكمْ فيه قوَّةُ الأعضاءِ والآلاتِ لا يجوزُ الإقدامُ على إخراجِهِ منه بالفصْدِ، فإنَّه يضعُفُ عن ذلك، وكذلك الشيخُ الهرِمُ لا يجوز الإقدامُ على إخراجِهِ منه بالفصدِ؛ لأنَّه يضعُفُ عن ذلك كما يضعُف الصبيُّ.
فأمَّا إخراجُهُ منهما بالحجامةِ أو بإرسالِ العلقِ فقد يتهيَّأ؛ لأنَّ ذلك لا يُعقِبُ منَ الضعفِ ما يُعقِبُه الفصدُ الذي هو الوجهُ الأقوى مِنْ وجوهِ إخراجِه.
وقد يُفصَد لإخراجِ الدمِ عروقٌ كثيرةٌ معروفةُ الأسامي، وقد اختير كلُّ عِرْقٍ منها لعلَّةٍ مذكورةٍ يفصَدُ لها ، وأشهرُها وأكثرُها في الاستعمالِ العروقُ الثلاثةُ التي هي البَاسَلِيْقُ والقِيفَالُ والأكْحَلُ. وأعمُّها نفعًا لجميع البدنِ الأكحلُ، فإنَّه يُخرِجُ الدَّمَ مِنْ جميع أجزاء البدن، أعلاه وأسفلِه. والأصلحُ منها للعلل التي تعرِضُ في الكبدِ والأحشاءِ ويُحتاجُ فيها إلى إخراج الدَّمِ الكثيرِ القويِّ الباسَليقُ، فإنَّه يُخرِجُ الدم منَ العروق التي هي أوسعُ ويكثرُ الدَّمُ فيها ويغزرُ. وأصلَحُها للعللِ التي تعرِضُ في الرأسِ وما يلي أعاليَ البدنِ القيفالُ، فإنَّه يُخرِجُ الدمَ مِنْ تلك المواضع.
وكذلك الحجامةُ، فإنَّه قد يُخرَجُ بها الدم مِنْ مواضعَ كثيرةٍ منَ الجسدِ،
وأعمُّها وأكثرها في الاستعمال الحجامةُ على الأخدعين ؛ لأنها تجذِبُ مِنْ جميع
النواحي التي تليها مِنْ أعالي البدنِ وأسفلِهِ. وأقواها جذبًا الحجامةُ على
الساقين؛ لأنها تجذِبُ مِنْ أعلى البدنِ جذبًا قويًّا. والحجامة على الكاهل
متوسِّطةٌ بين النوعين الآخرين? اللَّذين هما الحجامةُ على الأخدعينِ والحجامةُ على
الساقينِ.
وهذه المواضعُ الثلاثة هي المواضعُ المشهورةُ للحجامةِ، وهي المقسَّمة أعلى
الجسدِ وأوسطَهُ وأسفلَهُ، وهي نظائرُ لفصدِ العروقِ الثلاثةِ المذكورةِ التي هي
فصدُ الباسَليقِ والأكحلِ والقيفالِ في الشهرةِ ? وكثرةِ الاستعمالِ، وسوى هذه
المواضعِ المسمَّاةِ الثلاثةِ مواضعُ كثيرةٌ منَ الجسدِ للحجامةِ، وكذلك سوى
العروقِ الثلاثةِ المذكورةِ منَ الفصدِ عروقٌ أخرُ قد اختيرَ كلُّ واحدٍ منها
لعلَّةٍ معروفةٍ سُمِّيَ لها.
والدمُ الذي يجبُ إخراجُه منَ البَدَنِ ثلاثةُ
أصنافٍ:
فالصنف الأوَّلُ منه الذي يغلبُ بكميَّتِهِ، فتمتلئ العروق منه، ولا يكون له كيفيَّةٌ فاسدةٌ.
وعلامة هذا النوع أنْ يجدَ صاحبُه ثقلا ظاهرًا في بَدَنِهِ، واحمرارًا. والمواضعُ التي يكون للدم فيها تأثيرٌ بليغٌ وحكَّةٌ لا يكون لها لذعٌ شديدٌ، وما أشبه ذلك مِنْ أعراضٍ دالَّةٍ ? على كثرة الدمِ.
والصنف الثاني هو الذي غلبتُهُ لكيفيَّةٍ، وهو ألا يكونَ له مقدارٌ كثيرٌ منَ الكمِّيَّةِ، ولا يبلغُ بعدُ مبلغَ الفساد والعفونة، إلا أنَّ الحركةَ تقوى فيه، فتغْلِيَهُ كما تُغلي النارُ الماءَ القليلَ في القدرِ، فيفورُ إلى رأسِها.
وعلامةُ هذا الصنف أنْ يجدَ صاحبُه حرقةً في كثيرٍ مِنْ أعضاء جسده، وحكَّةً مع لذْعٍ وبثورٍ يوجد فيها حرقةٌ ولذعٌ، وما أشبه ذلك منَ الأعراض الدالَّةِ على حدَّة الدمِ، وهي أعراضٌ تشابِه أعراضَ المرَّةِ الصفراءِ، وذلك أنَّ الدمَ إذا احترقَ وقلَّتْ رطوبتُه وكثُرَتْ حرارتُهُ استحالَ إلى الصفراءِ كاستحالةِ/ الهواء الذي هو نظيرُهُ إذا ذهبَتْ رطوبتُه وقويَتْ عليه الحرارةُ إلى النارِ.
والصنف الثالث هو الذي يغلب بكمِّيَّته وكيفيَّته، فتتمكَّن منه العفونة والاستحالة.
وعلامةُ هذا الصنف أنْ تتجاوز أعراضُه ما وصفناه إلى توليدِ الحُمّيات والأورامِ والأمراضِ الدمويَّة. ولكلٍّ مِنْ هذه الأصنافِ في إخراجه تدبيرٌ سوى الذي يُستعمَل في غيره، فالصنف الأوَّل الذي تكون غلبته لكمِّيَّةٍ ينبغي أنْ يُخرَج منه مقدارٌ أكثرُ، حتى يتنفَّسَ ويذهبَ منه الفضلُ الذي لا يُحتاج إليه، ويحصلُ ما يُحتاج إليه.
وأما الصنفُ الثالثُ وهو الذي قد فَسَدَ
واستحالَ وقَبِلَ العفونةَ فحقُّه أنْ يبالَغَ في إخراجِ كلِّ ما تحتملُ قوَّةُ
الطبيعةِ إخراجَه منه، ولو أمكنَ أنْ يُخرَجَ جميعُ ما يفسُدُ حتى لا يبقى منه شيءٌ
ويُستبدَلَ به دمٌ صحيحُ الجوهرِ لكانَ ذلك أصلحَ، إلا أنَّ ذلك غيرُ ممكنٍ، فأمَّا
إذا احتملَت القوَّةُ إخراجَهُ منه فواجبٌ ألا يقصَّر فيه.
ويجبُ أنْ يُختارَ لإخراجِ الدمِ ذا لم يكنْ ضرورةٌ توجبُ المبادرةَ به الوقتُ الأصلحُ له. وأوقاتُ إخراجِه: أمَّا مِنْ فصولِ السنةِ ففصلُ الربيعِ هو أصلحُ الفصولِ لجميعِ أنواعِ الاستفراغِ، ولإخراجِ الدمِ خصوصًا؛ لأنه يتبيَّغُ ويقوى سلطانُه فيه. ويجبُ أنْ يُختارَ مِنْ هذا الفصلِ منتصفُه، وذلك عند بلوغِ الشمسِ النصفَ مِنْ آخر الثورِ. وأمَّا مِنْ جهةِ ساعاتِ الليلِ والنهارِ فعند انقضاءِ ثلاثِ ساعاتٍ مِنْ أوَّل النهارِ؛ لأنَّ سلطانَ الدمِ يقوى في هذا الربعِ مِنْ أرباع النهار، وهو نظيرُ فصلِ الربيعِ إذا جزِّئت السنةُ بالفصولِ الأربعةِ، وجزِّئَ النهارُ بالأقسامِ الأربعةِ، فالذي يقوى سلطانُه في هذه الثلاث ساعاتٍ التي هي الربعُ الأوَّلُ مِنْ أرباعِ النهارِ، كما يقوى في الربيعِ الذي هو الربعُ الأوَّل مِنْ أرباعِ السنة.
والأمرُ في تدبيرِ إخراجِ الدمِ أنْ يُمتثَلَ فيه ما ذكرناه في بابِ الاستفراغِ
بالأدويةِ المسْهِلَة مِنْ أنْ يُجعَلَ الاستفراغُ مرَّتين في السنةِ، مِنْ فصلَي
الربيعِ والخريفِ، ليكونَ ذلك أخفَّ على القوَّةِ الغريزيَّة إلا أنْ يضطرَّ حالٌ
إلى غير ذلك، فإنَّ الإنحاءَ على القوَّةِ الغريزيَّةِ بإخراجِ الدمِ الكثيرِ دفعةً
واحدةً مما يؤدِّي إلى ضعفِها وتوهينِها، وإذا جُزِّئ ذلك عليها كانتْ أحملَ له.
وإذا وقعَ الفصدُ في مرَّتين فالواجبُ أنْ يؤخَّرَ الربيعيُّ منهما للسببِ الذي
وصفناه مِنْ بلوغِ الدمِ غايتَهُ في التزيُّدِ والحركةِ، ليكونَ إخراجُه في ذلك
الوقتِ أقطعَ لمادَّته، وأقمعَ لحميَّتهِ. وأمَّا الخريفيُّ منهما فيجبُ أنْ يبادَر
به ولا يؤخَّرَ، لأنَّ الدمَ في ذلك الوقتِ يكون في نقصانٍ، وفي الميلِ إلى الجمودِ
والانعقادِ، فيكونُ إخراجُه وفيه بقيَّةٌ منَ السخونةِ بحرارةِ الصيفِ أصلحَ وأنفعَ
مِنْ أنْ يؤخَّرَ إلى وقتٍ يغلبُ البردُ فيه ? على الأبدانِ، ويتهيأ للغلظِ
والجمودِ، فيقلَّ الانتفاعُ بإخراجِه في ذلك الوقتِ.
وإذا اتُّخِذَ التدبيرُ في باب الاستفراغِ بأنْ يكونَ الفصدُ وأخْذُ الدواءِ المسْهِل معًا فالأصلحُ الأصوبُ أنْ يقدَّمَ الفصدُ على أخذِ الدواءِ، ليكونَ الإقدامُ عليه في وقتِ? استحكامِ قوَّةِ البدنِ، ولأنَّ الأخلاطَ الأخرَ متشبِّثةٌ بالدمِ، فربَّما أغنى إخراجُه بخروجِ ما يخرجُ معه مِنْ تلك الأخلاطِ عن التعالجِ بغيره، فإنْ وجدَ مغنيًا عن ذلك وإلا نظرَ إلى ما يغلبُ على البدنِ منها بعد إخراجه، فيُستخرجُ منه بالدواء الذي هو خاصٌّ مستصلَحٌ له. فأما إذا قدَّمَ أخْذَ الدواء فإنَّ قوَّة البدنِ تضعُف وترقُّ بأخذِ الدواءِ، وإذا حُملَ عليها بعد ذلك بالفصدِ وإخراجِ الدمِ كان خليقًا لاستيلاءِ الضعفِ عليه، فلذلك يجبُ تقديمُ الفصدِ.
ويجب أنْ يُعَقِّبَ الفصدَ بتناولِ الأغذيةِ الجيِّدةِ الغذاءِ والتنميةِ
للبدنِ، ? مِنْ ماءِ اللحمِ، وصفرةِ البيضِ، والشرابِ الجيِّدِ بالقَدْرِ المعتدلِ
منه، ليزيدَ ذلك في قوَّةِ البدنِ، ويمتنعَ مِنْ تناولِ الأغذيةِ التي تورثُ
السدَدَ، وتولِّد الغذاءَ الرديء، مِنْ نحو البقولِ والفواكهِ وما أشبهها.
ويجبُ أنْ يتجنَّبَ وقوعَ الفصدِ بحالِ خُوىً أو
امتلاءٍ، أو في حالِ خمارٍ أو تعقُّب تناولِ دواءٍ قريبِ العهدِ منه، أو
تعقُّب جماعٍ، أو في حالِ تمكُّنِ قوَّةِ غضبٍ أو حزنٍ منَ الإنسان. فإنَّ
هذه كلَّها أحوالٌ يُكرَه الفصدُ معها، ويُتخوَّف إذا أقدم عليه في شيءٍ منها
تَعَقُّبُ ضررٍ وآفةٍ يخلصان إلى البدنِ منه.
فهذه المعاني التي ذكرناها مشتملةٌ على جُملِ ما يُحتاجُ إلى استعمالِه منَ التدبير في بابِ المداواةِ والمعالجةِ وإعادةِ الصحةِ، وفيها كفايةٌ في بلوغِ الغرضِ الذي قصدناه. وتمَّت بهذا البابِ وبما تقدَّمه منَ الأبواب المقالةُ الأولى منَ الكتاب بحمدِ الله ومنِّه، وصلى ? الله على محمَّدٍ رسوله، وعلى آلهِ وصحبِه وسلَّم تسليمًا دائمًا إلى يومِ الدين.
القول في تدبير إخراج الدم :
- وهو علاج مهمٌ، لأن الفضول إذا بقيت في العروق ولَّدت العلل، وإذا أخرجـت عـاد البدن إلى تمام الصحة، وعاد كل عضوٍ إلى أفضل مزاجه.
- وبمقدار النفع من إخراج الدم عند الحاجة إلى ذلك يكون الضرر إذا أُخرج النقيُّ منه الذي تلزم الحاجة إليه، وذلك لتعلق الحرارة الغريزية به، ولأن كل ما سواه من الأخلاط مغمورٌ به، لكونه مبثوثاً في أجزاء البدن يغذوها كلها.
- يخرج الدم بالفصد والحجامة وإرسال العلق : فإذا تبيَّغ الدم وتحرك في جوف العروق احتاج إلى الفصد ليخرج من مكمنه، أما إذا كان فيما يخرج عن العـروق فتنفعه الحجامة، وأما إذا قرب من البشرة وولّد البثور نفع إخراجه بإرسال العلق.
- لا يستعمل الفصد عند الصبي والشيخ لقوته، وإنما تستعمل الحجامة وإرسال العلق.
- أشهر العروق المستعملة للفصد : الباسليق والقيفال والأكحل، وأنفعها لجميع البدن الأكحل، وأنفعها لعلل الكبد والأحشاء الباسليق، وأنفعها لعلل الرأس والبدن عامـةً القيفال.
- أكثر ما تكون الحجامة على الأخدعين إذ تجذب الدم من جميع النواحي، والحجامة على الساقين أقوى جذباً، والحجامة على الكاهل متوسطة بينهما.
- أصناف الدم الذي يجب إخراجه :
الأول : يغلب بكميته فتمتلئ منه العروق، وليس له كيفية فاسدة. ويترافق بثقل البدن والاحمرار والحكة دون لذعٍ شديد. وهذا الصنف يُخرَج منه مقدارٌ كبيرٌ.
الثاني : غلبته بكيفيته - دون كميته - فتقوى فيه الحركة. يترافق بحكة مع لذعٍ وبثور، وهذا الصنف يُخرَج منه مقدارٌ قليل مع المعالجة بالتسكين.
الثالث : يغلب بكميته وكيفيته فتتمكن منه العفونة والاستحالة. ويترافق بالحميات والأمراض الدموية. وهذا الصنف يبالغ في إخراجه ما أمكن.
- أوقات إخراج الدم : يختار من الفصول فصل الربيع لا سيما منتصفه. ومن جهة الساعات عند انقضاء ثلاث ساعات من أول النهار. ومن الأفضل أن يكون مرتين في السنة : في الربيع والخريف. ويؤخّر الربيعي دون الخريفي.
- يقدَّم الفصد على أخذ الدواء المسهل ليكون الإقدام عليه وقت استحكام قوة البدن، ولأنه ربما أغنى عن المعالجة.
- ينبغي أن يعقَب الفصد بتناول الأغذية الجيدة.
- يُتجنب الفصد بحال الخوى والامتلاء والخمار وعقب تناول دواءٍ قريب وعقب جماع وفي حال تمكن الغضب أوالحزن.
ج : المناقشة والنتائج :
1ـ أكد البلخي في مطلع الباب أن إعادة الصحة ليس هو الغرض الأساسي من كتابه، فمقصد الكتاب هو حفظ الصحة، وإنما جاء هذا الباب متمماً لأغراض هذا الكتاب. وإن إشارة البلخي إلى الخطوط العامة في المعالجة في هذا الباب لفتة علمية جديرة بالاهتمام. وعلينا أن نذكر هنا أن العلاج بالاستفراغ الذي أسهب البلخي في الكلام عليه، كان يستعمل لأغراضٍ وقائية وأغراضٍ علاجية عند الأطباء العرب.
2ـ أدرك البلخي أن الإجراءات الوقائية لا تمنع دائماً من الإصابة بالمرض. وهذا يقره الطب الحديث.
3ـ أوصى البلخي بتجنب الأدوية لأنها لا تشاكل طبيعة الإنسان. وهذا يتوافق مع ما نعرفه من الآثار الجانبية الضارة للمواد الدوائية المتناولة.
4ـ استند مبدأ العلاج عند البلخي إلى نظرية الأخلاط التي ورثها العرب عن الطب اليوناني، فكان يعتمد على مقابلة الداء بضده من العلاج من أجل العودة بالمزاج إلى الاعتدال.
5ـ إن تصنيف البلخي للمداواة بأنها تسكين وتقوية واستفراغ يتناسب من حيث المبدأ وما نعرفه اليوم بأن الطب العلاجي الذي نمارسه يقوم على : العلاج العرضي، والعلاج السببي، والعلاج الداعم. فالتسكين يقابل العلاج العرضي، والتقوية تقابل العلاج الداعم، والاستفراغ يقابل العلاج السببي.
6ـ أدرك البلخي أن الحاجة إلى التسكين تشتد في الأمراض الحادة، وهذا صحيح بشكل عام.
7ـ إن ما ذكره البلخي عن اختلاف القواعد العامة للمداواة حسب العمر وحسب الفصول كان بالاستناد إلى نظرية الأمزجة.
8ـ أدرك البلخي اختلاف تحمّل الأشخاص للمسهلات القوية باختلاف قوة أبدانهم واختلاف عاداتهم الغذائية. وعدّ الخارج من تأثير الدواء المسهل كالناقه من العلّة.. وهذا يتوافق وما نعرفه من تأثير الإسهالات على توازن السوائل والشوارد في الجسم.
9ـ ما ذكره البلخي من أن إخراج الدم ينبغي أن يكون عند الحاجة إليه، وأنه تختلف طريقة إخراج الدم ( الفصد والحجامة وإرسال العلق ) حسب العمر يتوافق وما نعرفه من أن للفصادة الطبية استطبابات محددة، وأن الكمية المفصودة من الدم تختلف حسب العمر.
10ـ ما ذكره البلخي من استطبابات إخراج الدم حين تظهر علامات ازدياد كميته، أو عندما تغلب عليه كيفية فاسدة يتوافق عموماً وما نستعمله اليوم من الفصادة في حالات ارتفاع التوتر الشرياني الخبيث، وفي حالات احمرار الدم، وفي حالات فرط بيلروبين الدم عند حديثي الولادة.
11ـ ما ذكره البلخي من تناول الأغذية الجيدة عقب الفصادة، وعدم استعمالها في حال الجوع أو عقب تعب أو سوءٍ في الحالة النفسية، كل ذلك من التعليمات العامة المقبولة طبياً.
12ـ يعتمد مبدأ الحجامة على إحداث حالة احتقان موضعي صناعي بواسطة وضع المحاجم (الكؤوس) فوق مناطق معينة من الجسم، وإحداث ضغط سلبي داخل المحاجم ينجذب على إثره الجلد والأنسجة الواقعة تحته لملء الفراغ فيزداد توارد الدم إلى المنطقة.
وهذه العملية يمكن أن نجمل فوائدها بما يأتي :
أ ـ تنشيط الدورة الدموية واللمفاوية عن طريق التدليك القوي للعضـلات والتفاعـل الخلوي في أنسجة الجسم.
ب ـ تنشيط العمليات الحيوية في طبقات الأنسجة تحت الجلد، وبين العضلات حيث تتخلص من فضلات التعب.
ج ـ تقلل حالات الورم الناتجة عن ضعف نشاط الدورة الدموية، خاصة إجهاد الساقين والإصابة بالشد والتمزق العضلي والكدمات الشديدة.
د ـ تساعد في إزالة التهابات الألياف العضلية والأنسجة العصبية وتفيد في تقليل الشعور بالألم، وعرق النسا، والآلام الروماتزمية والعصبية وأوجاع البرد.
وتزيد الحجامة الرطبة على ذلك بإحداث جرح سطحي صغير قبل استعمال المحجم، فيزداد خروج الدم في المكان. ويمكن أن تفيد في حالات وذمة الرئة وتلوث الجروح الغائرة والخراجات وعلاج حب الشباب وأمراض القلب الاحتقانية، وآلام المفاصل الروماتزمية.
13- يتم التركيز في عملية الفصادة على وعاء دموي معيّن. ويمكن أن ينتج عن تخلص الجسم من كميّة من الدم الفوائد الآتية :
أ- تنشيط مراكز توليد الكريات الحمر في الجسم.
ب- تنشيط دوران الدورة الدموية بشكلٍ كامل.
ج- تنشيط حيوية الخلايا الدماغية والعصبية.
د- تسريع عملية التبادل الخلالي، حيث يخلص الخلية من عمليات الاستقلاب الموجودة فيها.
تفيد عملية الفصد بشكل خاص في شفاء الشقيقة التي هي مرض وعائي.
14- يستفاد من العلق الذي يلتقط من المستنقعات بسبب خاصيّة التصاقه وامتصاصه لمقدار معيّنٍ من الدم.